”الكفن” مقابل الحياة وإنهاء بحور الدم في البدرشين
«القضاء العرفى».. القانون الموازى ويد العدالة الناجزة لإنهاء حوادث الثأر
أستاذ اجتماع بجامعة بني سويف: «أحكامها ملزمة للجميع»
تقرير: مها أشرف
محمد رزق
القضاء العرفى.. أو الجلسات العرفية عبارة عن أعراف تحكم القبائل العربية والعائلات الكبيرة، تمزج بين أحكام الشريعة الإسلامية، وما اتفقت عليه التقاليد السائدة في المجتمعات القبيلة، تكتسب أهميتها من توثيق أحكامها بالمحاكم، وفقًا لإجراءات قانونية، ويؤلف القضاء العرفي من مشايخ القبائل ومحكمين عرفيين يتمتعون بسداد الرأي والبصيرة والخلفية الدينية والزعامة الشعبية عند جمهور العرب، ويكون بديلاً للقضاء الحكومي.
وغالبا ما يكون الحكم في جلسات الصلح العرفية في قضايا الثأر أو التعدي على الملكيات والأراضي، ويكون الحكم بالشخص المعتدي بدفع مبلغ من المال أو التنازل عن أراضي، حتى باتت الجلسات العرفية حصنًا لدرء مخاطر الفتنة الطائفية، حيث أصبحت تقام في مناطق الاشتباكات الطائفية أكثر من النائية والبعيدة عن سلطة الدولة وقضائها كما كان في السابق.
تبدأ الجلسة بكتابة أسماء المتنازعين ويوقع بعدها المتخاصمون على إيصالات أمانة محددة سلفا، بعدم تعدي طرف على الآخر، وينادى المحكمون أسماء المتنازعين لإثبات حضوهم أمام المحكمين والحضور الذين يتكونون من كبار المشايخ والعائلات وبعض أهالي القرية، وتستمع هيئة المحكمين لرأى أطراف النزاع، كل على حدة، ليصدر في النهاية الحكم، وبعدها يوقع المحكمون على محضر الجلسة وما تم الاتفاق عليه، سواء بتوقيع غرامات أو صلح أو ما شابه ذلك.
من جهته أكد الدكتور جمال عبد المطلب، أستاذ علم الاجتماع في كلية الآداب جامعة بنى سويف، أن هناك مجتمعات قبلية ما زالت تحكمها العادات والتقاليد، وتسري عليها الأعراف، وتتحكم فى مقدراتها ومعاملاتها العائلات، ما يعكس قوة العرف وسيادة ثقافة القانون اﻻجتماعى.
وأضاف "عبد المطلب" أن الجلسات العرفية تتشكل من كبار العائلات أصحاب السلطة المأخوذة من العرف والتقاليد والثقافة اﻻجتماعية التقليدية المتوارثة، ومن ثم تكون أحكامها ملزمة وسارية، وﻻ يمكن نقضها حتى فى حاﻻت اللجوء إلى القانون الرسمى.
وأوضح أستاذ علم الاجتماع أن مشكلة الثأر فى صعيد مصر خير دليل، ومن ثم فإن تفعيل الجلسات العرفية ووجود ممثل فيها للقانون الرسمى يحل كثيرًا من المشكلات، ويتصدى للعديد من الجرائم، ويساعد السلطة التنفيذية فى القيام بدورها فى مواجهة الجريمة وتطبيق العدالة، خاصة في جرائم القتل.
شهد مركز البدرشين، التابع لمحافظة الجيزة، جلسة عرفية للتصالح بين قبيلتى "أبو ناصر" و"شعلان"، قدمت خلالها أحد أفراد العائلة الأولى الكفن للطرف الآخر، حقنًا لدماء أبناء قرية صقارة التابعة للمركز.
حضر الجلسة عدد من القيادات الأمنية بمركز شرطة البدرشين، والسفير محمود هريدى سفير الأمم المتحدة، وعبد الله تركى عمدة العزايزة، والكابتن جمال عبد الحميد، والإعلامى محسن داوود، وسالم أبو غزالة مستشار المجلس الأعلى للقبائل المصرية والعربية، ومحمد عبد الظاهر، شاعر العرب، الدكتور أحمد الجمل، أستاذ بجامعة حلوان، ولفيف من القيادات الأمنية بمركز شرطة البدرشين.
بدأت مراسم الجلسة بتلاوة آيات من القرآن الكريم، وأعقبها كلمة الإعلامى محسن داوود، أكد خلالها أن مركز البدرشين توجد به روابط نسب، من خلالها استطاع الحكماء أن ينهوا هذا الثأر بصلح العائلتين.
وأكد "داوود" أن تحكيم صوت العقل لعب دورا رئيسيا فى إنهاء تلك الخصومة، مشيرًا إلى أن البدرشين هى أول عاصمة فى التاريخ القديم، وكانت تعرف بـ"منف القديمة"، وأقام على أرضها يوسف عليه السلام، أى أنهم أهل إيمان وسماحة، ونحن نعرف جميعا أن هذا الأمر صعب على "ولى الدم" أهل القاتل، ولكن بفضل الله تم الاتفاق على أن يعطى الحق لأصحابه وهو "الجودة" أى تقديم الكفن.
وأضاف "داوود"، نحن ننتظر من رئيس الجمهورية إنشاء لجنة المصالحات، التى تحدث عنها سلفا، وعلى مجلس النواب عرض هذا الملف ومناقشته، مطالبا بالاعتراف بالتحكيم العرفى وإلقاء الضوء عليه من وسائل الإعلام.
من جهته قال الدكتور أحمد الجمل، أستاذ بجامعة حلوان، "نحن اليوم فى عمل يحسب من العبادات، والتصالح بين الناس من أعظم الأعمال عن الله عز وجل، وديننا دين السماحة، به أسس لو عملنا بها لحققنا السلام التام، فالدول الغربية أخذت عقائد الإسلام فى السلام وجعلته فى مواثقيها، ونحن أمة الإسلام التى دعانا المولى فى كتابه العزيز بقوله "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا".
وفي نهاية كلمته قدم "الجمل" الشكر لعائلة "شعلان" لامتثالها لقول الحق تبارك وتعالى "ومن عفا وأصلح فأجره على الله"، وكذلك عائلة "ناصر" لمثولهم للأمن والسلام، حتى يعيش الناس في سلام.
أشار سالم أبو غزالة إلى أننا كمجلس أعلى للقبائل المصرية والعربية نساند تلك قضايا الصلح بكل جدية، لأن إفشاء العدل بين الناس هو غايتنا، ومصر تحتاج إلى كل القوى، وبذل الكثير من الجهد، قائلا للجميع، "مدوا ساعدكم وابنوا بلادكم وتعاونوا على البر والتقوى".
وقال الشيخ عطية صادق حجازى، مأذون أول سابق بمدينة البدرشين، "أهل الفقيد ناس عارفة ربنا وقبلوا الجلسة العرفية حقنًا للدماء، ولأنهم أهل سماحة، وبالنسبة للفقيد فهو فى ذمة الله، والقاتل فى يد العدالة لينال عقابه، ولكن الأهم هو حقن الدماء بين القبيلتين الكبيرتين فى صقارة والبدرشين".
وأضاف الشيخ رفعت عبد الحميد جاد، موظف بمديرة الأوقاف بالجيزة، "بفضل الله والناس المخلصين والمحكمين استطعنا أن نقيم الصلح بين القابلتين، وجلسة الصلح هذه تعد من المجالس التى تحضرها الملائكة، إضافة أن هذا من باب السلام".
وأشار جاد إلى أنه هذا الموقف الصعب على أهل الفقيد يعلمهم قيما عظيمة، وهى الصبر والسماحة والحكمة، ويعطيهم القوة، مضيفا أننا أهل ريف نمتلك الفضائل العالية، وعند الصلح يكون صلحا لا يترك وراءه أى آثار سلبية، وشروط الصلح في الإسلام يقدرها الحاكم بأموال، وهنا قدم أهل القاتل مائة ألف جنيه، بالإضافة إلى شرط جزائى يقدر بمليون جنيه على العائلتين، إذا اعتدى أحدهما على الآخر.
وقال الحاج عبد الله تركى، إن ما حدث من المخطئ معناه فى العرف أنه ميت، وهو ما يقوم به واحد من أهل القاتل، إضافة إلى أن القاتل مازال فى يد القضاء لينال عقابه، ولكن تقديم الكفن لحقن الدماء بين العائلات، لأنهم لا يعترفون سوى بالثأر.
وأضاف "تركى"، دورى فى الجلسة يطلق عليه "مرجع الجلسة"، أى رمانة الميزان فى النصف بين المحكمين، كما يوجد دور مهم للداخلية اليوم، وهذا الدور مشاركة تطوعية وليست قانونية.