تاريخ احتكار الزيتون فى مصر
التالى ما هو إلا تسجيل لتاريخ منظومة احتكار شراء محصول الزيتون، وكيف بدأت، لأن الكثيرين ربما لا يعرفون.
من لا يعرف تاريخه لن يكون له لا حاضر ولا مستقبل، ففى التاريخ قصص نجاح وفشل لابد من أن يُستفاد منها، وبديلها أن يستمر الإنسان فى اختراع العجلة بنظام تكرار الخطأ والصواب.
تاريخ طويل لمن لديهم وقت ومهتمون
فى الثمانينات كانت المساحة الزيتونية صغيرة، ولم يكن هناك مصانع بالمعنى العصري المفهوم حاليًا. كان هناك عدد كبير من معامل التخليل (الطرشجية) فى معظم المحافظات، بالإضافة إلى سوق "الكفة والميزان" من المشنات لأيدى ربات البيوت.
كان نشاط التجار ومنهم أصحاب وكالات، محدودًا فى تمويل المُزارع البسيط مقدما طوال العام، للصرف على زراعته، وكانوا يأخذون المحصول منه بعد حصاده بسعر يحقق للمزارع نسبة ربح عادلة (منطقة الفيوم تحديدا)، التى كانت تشهد الأفراح مع بيع محصول الزيتون، ثم فى مرحلة لاحقة شهدت بناء الفيلل والقصور التى لم يبنها المزارعون، الذين ظلوا على حالهم من شظف العيش، بل خرج بعضهم ومن ذرياتهم شباب بالألآف لا دخل لهم إلا من الانتشار فى ربوع مزارع الزيتون الجديدة بالصحراء لحصاده فى ظروف غاية فى الصعوبه واللا إنسانيه.
المزارعون على قلتهم فى ذلك الوقت، مقارنة باليوم ومعظمهم من الفيوم، ويضاف لهم الرعيل الأول ممن اقتحموا الصحراء فى منتصف الثمانينات كانوا يحصدون محصولهم بأنفسهم.
*كان الزيتون يصل للمخللاتية وسوق القطاعي "المشنه" من خلال وكالات تُسمى "وكالات الزيتون والليمون" الرئيسية، منهم كانت فى باب الشعريه ثم فى المحلة ودمياط. أصحاب "الوكايل" كانوا من خيرة الناس، لأن رأس مالهم كان السمعة الطيبة أما المال النقدي فكان عدتهم، تجار بحق (لأن ليس كل من اشترى وباع يستحق لقب تاجر).
وكان يُشهد للتجار الأوائل بالنزاهة والصدق وكانوا يعاملون الله قبل أن يعاملوا البشر، حيث كان المزارع يُسلم زيتونه للوكالة آخر النهار ليلا، أو فجر اليوم التالي وتُوزن "نقلته"، التى كانت ترِد فى شكاير، مع الأسف، ويُكتب عليها اسم صاحب "النقلة" ووزنها، وكان له أن يُغادر أو ينتظر لحضور المزاد، ولكن معظمهم كان يغادر لثقتهم فى صاحب الوكالة.
ما أن تُشرق الشمس إلا وتزدحم الوكالة بالمشترين من السريحة والطرشجية وأصحاب محلات الفول والطعمية، ويبدأ المزاد الذي يتولى إدارته بحرفية شديدة المعلم بحق، "فهو الأمين الصادق".
كان المعلم حريصا على إن يحقق المزاد أعلى سعر، وكان حازمًا فى إدارته للمزاد، وكانت "قُفَّة" كبيرة تُملأ، وتتسع على الأقل لمسة تزن ٥٠-٦٠ كيلوجراما، كعينة من "نقلة" المزارع فلان، وتوضع على الميزان الطبلية ليس بهدف وزنها، ولكن ليطّلع على زيتونها المشترون، لأن الميزان الطبلية يوضع عادة على قاعدة مرتفعة، يقف عليها أيضًا المعلم لتكون عيناه مسلطتين على كل مايدور حوله بزاوية ٣٦٠ درجه.
صوته أحيانا يُحشرج مع إنتهاء المزاد، حازمًا لدرجة أنه كان يوقف المزاد إذا ما تلاحظ له أن مد أيدي المشترين داخل القفة، "حيبهدل الزرع".
كان المعلم يوقف المزاد إذا لم تُحقق "النقلة" السعر العادل، وينتقل للنقله التاليه، وعندما تتحرك الأسعار صعودا يعود إليها مرة أخرى.
الغريب أن من رسا عليه المزاد لنقلة ما، كان يذهب ليدبر سيارة ربع نقل، أو كارو، ويحمل النقلة ويذهب لحال سبيله دون تسديد أى مبلغ، ولكن المعلم فى وسط هذا الزخم كان يحمل كراسا يسجل فيها إسم المشتري والوزن والمبلغ المستحق عليه. أي أن نظام البيع كان واضحا يراعي حقوق الله، والبائع والمشترى.
كانت الوكالة لها نسبة من المبيعات تتراوح بين ٥ و٧% لتغطيه نفقاتها من عماله وكهرباء وإيجارات وإستثمار فى الأصول، ولانها أيضًا تموَّل لأجل.
وللغرابة، فإن المشترين الذين استلموا زيتونا كانوا لم يسددوا شيئا لحين "الشروة" التالية، وكان الكل بيتراضى، سواء المستهلك النهائي الذي يصله الزيتون الطازج أو المخلل، أو المزارع، أو مِعلم الوكالة والسريح.
وصاحب معمل التخليل (الطرشجى)، كان اسم معبر وجميل، ولكن مع الأسف اندثر، أو في طريقه للاندثار، لأن عيب يكون هناك طرشجى كما هو عيب أن يكون هناك بقال (كله سوبر ماركت حتى لو متر × ٢ متر).
أسباب الاحتكار
الاحتكار كان من أسبابه الرئيسية دخول أعداد كثيرة من التجار، عدا الرعيل الاول، لشراء المحصول كلاله.
جزء كبير من التاريخ وله أسبابه وتوابعه، ويناقش مستقبلا منفردا إن شاء الله إن واتتنا الفرصه، وكان للقراء رغبه فى معرفة التطور الطبيعى لضياع حقوق مزارعى الزيتون، وأنهم أصبحوا نهبًا لنظام إحتكارى سيقضى على الجميع، لأن ليس هناك رؤيه مستقبليه بتاتا لهذه الصناعه فهى فى قمة العشوائيه وتنقسم لفصائل ليس بينهم أى تعاون.
السمة التي تطغى على المحتكرين اليوم، أن فصيلا ما "يعمل قرشين" بسرعة وبأي طريقه، ويتركهم لورثته من بعده ويرحل، فكلنا راحلون.
والعياذ بالله، فيه ناس أصبحوا فوق دنيويًا من ظلم المزارع الذى يجهل ما عنده، ويقال له اشترينا ب ١٥ جنيه، والواقع أنهم إشتروا ب- ٥ جنيه والمشترى ضايع، لأنه لا يعرف كيف يُقدر محصوله، وإن إستقدم أحد ليقدر له، فقلما يكون صادقا.
فى الغالب هو يدِّعى المعرفه، أو يعرف، ولكنه مطواطئ مع المشترى الذى سيكون.
من الأمثله الأخرى والعياذ بالله، التطفيف فى الموازين و"السكينة سرقاهم"، لأنهم سعداء بما حققوه ويطلعوا يحجوا مرات عديدة، متخيلين أنهم سيعودون كما ولدتهم أمهاتهم، ولكن الأموال الحرام تحتضنهم فور عودتهم فهى باقيه.
قبل انتصاف التسعينات من القرن الماضى، بدأ ظهور السياسه الاحتكارية المقيتة، مع ظهور عدة مصانع على استحياء نتيجة لتوفر المادة الخام، مقتفية فى ذلك أثر العظيم الدكتور على إبراهيم وشركه دكتور أوليفى.
ويشهد على ظهور الاحتكار بضراوة الاجتماعات التى كانت تدار فى ٣٣ شارع جامعة الدول العربية ويحضرها نخبة المشترين لتحديد سعر الشراء.
كنت أحضر كمراقب أفرض نفسى على الحضور لأنى لم أكن مصنعًا. كان الدكتور محمد السيد والدكتور عدلى الخطيب رحمه الله، والدكتورة إكرام أبو شنب يحضرون أيضا تلك الإجتماعات على أمل أنها قد تُفيد الصناعه. مرة تلو الأخرى اتضح أن الهدف الأسمى هو الاتفاق على السعر الاحتكاري لشراء الزيتون.
وكمثال، وقت أن كان زيتون العجيزي سعره يتراوح بين ٩٠ و١٠٠ قرش، كانوا يتفقون على أن سعر الشراء الموحد هو ٧٥ قرشًا وكنت أقول لهم أثناء الاجتماع نصا: أول واحد منكم حيوصل لأول تليفون حيكلم رجالته ويقول لهم حنوقف إستلام لمدة يومين تلاته وحنفتح إستلام على ٨٥ قرش".
أما الهدف التالى لتحديد أسعار الشراء إحتكاريًا فكان معرفة خبايا من يحضر من المصنعين وخاصة قدراتهم ومخزونهم الحالى من أنواع الزيتون المختلفه وزيت الزيتون، بهدف السمسرة المغلفه بأنشطه أخرى مصطنعة، مره من خلال الشراء بالاستعطاف والاستموات، (هناك وقائع).
ومرة من خلال مقولات "اللى حيشتغل معانا حيلعب مع الكبار" "وإحنا بتوع التصدير" ثم يؤول المآل بشراء زيتون أحد المصنعين وليكن "س" بسعر مخفض خاص ثم بيعه لنفس عملاء الطرف "س" (الفنادق كمثال) بأسعار أعلى من منتج الزيتون الأصلى "س" (أى سرقة العملاء وضرب المنتج "س" بنفس إنتاجه). والله أحداث كانت تحصل نرصدها والله شاهد عليها.
إستمرت هذه الاجتماعات مع تغير بعض الشخوص حتى وقتنا الحالى وصولا للاجتماع فى المعداوي ومكاتب بعض المصنعين وأماكن أخرى مثل النوادى الإجتماعيه من نادى لنادى.
ما سبق أدى إلى ان مصر أصبح معلوم عنها أنها قلعة الزيتون الرخيص، فوصلها فى السنوات الأولى من الألفية الجديدة مشترون أجانب منهم أرمنى يحمل الجنسيه الأمريكيه إسمه نيكولا. سقط من امريكا على التجار وبدأ فى شحن كميات زيتون "بلك" بتراب الفلوس، وتقدم بطلب لأخذ قطعة ارض فى المنطقه الحره بالعامريه وإستمر فى سحب مئات الأطنان حتى عام ٢٠٠٦.
ما زاد طين الاحتكار بله هو وصول السماسرة الأسبان والبرازيلين بعد بدء نيكولا لعمله بسنوات قليله عندما عرفوا أن مصر مصدرا رئيسيا لزيتون البلك.
هؤلاء لهم قبول ومصداقية كبيرة عند كل الأطراف كونهم أجانب، حتى وإن البعض يتصور أنهم خبراء، وهم ومن والأهم من أبناء جلدتنا من التجار والمصنعين يساهمون مع كارتيل الاحتكار فى فرض أسعار مجحفة على المزارعين.
نهاية: كفاكم صمتا يا مزارعى الزيتون المصريين.
* خبير دولي في مجال الزيتون وزيته