سكر.. أرز.. دولار.. حكومة تمر هندى محمود البرغوثى
استيراد الحكومة المصرية 620 ألف طن سكر، و400 ألف طن أرز، ما هو إلا إصرار على إعدام نحو مليونى طن سكر محلى، وثلاثة ملايين طن أرز شعير، فى مخازن المنتجين والتجار، ولا يوجد تفسير منطقى لهذا الفعل غير «سياسة العناد»، بدعوى ضرب حصون المحتكرين، وافتقار الحكومة إلى الحلول العملية، التى تتبلور فى إتاحة السلعة بسعر عادل يحقق الربحية للمنتِج، والرحمة للمستهلك، دون حاجة إلى الدولار.
مصر تزرع مساحة ثابتة من القصب تبلغ نحو 325 ألف فدان (تحقق أعلى إنتاجية عالمية قدرها 50 طناً للفدان)، وتزداد سنوياً مساحات زراعة بنجر السكر، نتيجة توسع أراضى الاستصلاح، حتى بلغت المساحة المنتجة للبنجر فى 2015، نحو 550 ألف فدان، والمحصولان ينتجان سنوياً ما يزيد على 2.2 مليون طن سكر حالياً، لتظل مصر عاجزة عن سد فجوة فى هذه السلعة فقط، قوامها نحو 900 ألف طن.
تزرع مصر أيضاً نحو 1.67 مليون فدان أرز سنوياً، بالمخالفة لخطة وزارتَى «الرى» و«الزراعة»، تنتج نحو 4.5 مليون طن أرز أبيض، بزيادة قدرها نحو 1.5 مليون طن على حاجة المصريين، تستهلك فى إنتاجها نحو 7 مليارات متر مكعب من مياه الرى، تكفى لزراعة نحو مليونَى فدان ذرة فى موسم الأرز ذاته.
معضلة الإنتاج الزائد والاستيراد لا توجد إلا فى مصر، فأمام برلمان غير قادر على سن تشريعات لتغليظ عقوبات الاحتكار، ومخالفات الزراعة، وإجبار الحكومة على التسعير العادل للحاصلات الزراعية، ستظل جهود الحكومة محصورة فى خطة «مطاردة القطط السوداء فى الغرف المظلمة» لكشف مخازن السكر والأرز والزيت وغالبية السلع التموينية الرئيسية، التى تنتفخ يومياً ببضائع محلية، بدعوى «السعر هيزيد».
السكر والأرز ليستا وحيدتين فى سوق تغريب السلع الأساسية، فهناك سلع وأجهزة أكثر أهمية من الأرز والزيت والسكر، كونها «تروساً» مهمة فى عجلة الإنتاج العام، وتتعرض جبرياً من التاجر أو المستورد لقرار وقف البيع فيها «وفقاً للمزاج الشخصى» تحسباً لنتيجة جولات الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولى، وترقباً لنتائج مباريات «القرض مقابل التعويم».
الحلول المتاحة كثيرة وتزدحم بها عقول الخبراء الحقيقيين، البعيدين عن دوائر صنع القرار، وأضواء الميديا، فأمام إعلان سعر استرشادى للأرز بـ2400 جنيه، خلال تداول أرز العام الماضى بسعر 4000 جنيه للطن، لم يجد الفلاح سوى التحول من مُزارع إلى تاجر، وإخلاء غرفة من بيته لـ«تشوين» الأرز فيها، انتظاراً للبيع فى موسم الندرة بزيادة 1000 جنيه عن السعر المعلن من الدولة، وذلك فى ظل المكاسب الخرافية التى حققها تجار الأرز العام الماضى، حيث اشتروا الطن بـ1650 جنيهاً، ثم باعوه بـ4000 جنيه بعد ستة أشهر.
ومع استمرار الضغط على الدولار، بفعل اتجاه الحكومة إلى الاستيراد، كيداً فى التجار والمحتكرين، سيظل صندوق النقد الدولى يضغط بلعبته الشرطية: القرض مقابل تعويم الجنيه، ورفع الدعم عن الوقود وتخفيض الأجور، أى رفع حالة الاحتقان فى المجتمع المصرى، نتيجة الارتفاع الجنونى لأسعار الوقود بما لا تصلح معه أى برامج مصرية لاحتواء الأزمة.
تعويم الجنيه، ورفع الدعم عن الوقود مثلاً، يعنى تجاوز تكلفة بند الرى فقط سعر بيع المحصول، أياً كان نوعه، ناهيك عن أسعار نقل باقى مستلزمات الإنتاج من الأسمدة والتقاوى، وتكاليف عمليات تجهيز الأرض والحصاد بالآلات الزراعية، والنتيجة مزيد من الغليان لقطاع قوامه أكثر من 52 مليون شخص، هم الفلاحون وأبناؤهم.
لا حل لمصر حالياً سوى تجاهل الدولار، والاتجاه لإدارة عجلات الإنتاج المحلى، من قطاعَى الزراعة والتعدين، ومن بين الحلول المتاحة، إحياء الخطط الواعدة التى تم الإعلان عنها خلال 2014، لزيادة إنتاج السكر فى مصر إلى 3 ملايين طن سنوياً، وتم طمسها لأسباب غير معروفة، حيث لا يمكن أن تتوافر حلول لأزمة الغذاء والسلع الاستراتيجية فى مصر، بمعزل عن قطاع الإنتاج الرئيسى لها، وهو قطاع الزراعة.
اختفت أو تعطلت دراسات واقعية لاستثمارات مصرية وعربية لزراعة بنجر السكر، وإقامة مصانع لإنتاج السكر، تسد الفجوة فى هذ المجال تماماً، ومنها: شركة إماراتية، وأخرى سعودية، وثالثة مصرية، كانت كفيلة بزراعة نحو 350 ألف فدان، مع إنشاء مصانع سكر عملاقة، باستثمارات تم تقديرها بنحو 8 مليارات جنيه، لإنتاج نحو 800 ألف طن سكر سنوياً، وتحويل مخلفاتها إلى أعلاف حيوانية وأسمدة عضوية، مع تشغيل ما لا يقل عن ستة آلاف شخص، والتعاقد مع نحو 20 ألف مزارع بنجر فى محافظات الصعيد والوجه البحرى أيضاً.
عام 2017 كان عام الحسم بالنسبة لإنتاج مصر من السكر، حيث كان من المتوقع كسر حاجز الـ3 ملايين طن، وبالتالى الاقتراب من نقطة التعادل، ما بين الإنتاج والاستهلاك، لتليها مرحلة التوعية بخفض استهلاك المصريين من السكر من 33 كيلوجراماً سنوياً، إلى المستوى العالمى المقدر بـ25 كيلوجراماً.
وزارة التموين المتهم الرئيسى فى صنع الأزمة، لعجزها عن وضع الحلول المنطقية، ومنها: توجيه ميزانيات تدبير السلع الغذائية نحو شراء إنتاجية الفلاحين من القمح، والأرز، والسكر، وإجبار هيئة السلع التموينية على التعاقد مع وزارة الزراعة على شراء الذرة البيضاء لإعادتها إلى منظومة إنتاج الخبز بالخلط مع القمح، ثم شراء الدجاج من اتحاد منتجى الدواجن بدلاً من استيراده لطرحه فى المجمعات الاستهلاكية، حتى يتمكن الاتحاد من التعاقد مع الفلاحين على زراعة الذرة الصفراء، التى تستورد مصر منها ما يزيد على 6 ملايين طن لصناعة أعلاف الدواجن والأسماك.
هذه الحيل العملية المتاحة تسهم فى تهميش الدولار، وتدوير الجنيه المصرى فى إنتاج خامات محلية، وتشجيع المزارعين، ومنتجى الدواجن، بدلاً من استخدام نظرية العناد فى تكسير عظام المحتكرين بالاستيراد، وخنق بضاعتهم فى المخازن، ففى فساد هذه البضاعة إعدام لحصة كبيرة من الناتج القومى الإجمالى لمصر، ومزيد من الخضوع لصندوق النقد الدولى.