إنهم يبيعون الهواء
فى واحد من أرقى أحياء مدينة المنصورة ، وفى أجمل واجهات شوارعها ، قامت إحدى شركات المحمول بافتتاح فرع لها ، إذا دخلت إليه شعرت وكأنك فى أغنى البنوك العالمية ، موظفون فى غاية الأناقة ، وأجهزة كمبيوتر حديثة ، وشبابيك للتعامل مع العملاء الذين يحجزون أدوارهم عبر ماكينة حديثة فى مدخل المقر الفخيم ! .
وسألت نفسى ، ماذا يبيع هؤلاء ، وماذا يجنى الاقتصاد القومى من جراء هذا النشاط ، وما هو مردوده فى إنقاذ عجز الموازنة او الميزان التجارى او فى تحسين صحة الجنيه المصرى أو فى حياة المواطن اليومية ! .
لكنه الانفتاح أيضا ، وتوابعه التى أدخلتنا فى تلك المحرقة ولانملك الفكاك منها ، انفتاح استهلاكى ترفى مدمر ، ففى الوقت الذى تجد فيه مائة نوع من اللبان ، لا تجد كيلو سكر واحد ، وفى الوقت الذى تتراص كراتين الشيبسى بأنواعها ومذاقاتها المتعددة ، لا تجد الدواء الذى يمكن ان ينقذ مريضا من الموت ! .
وينفقون الملايين فى الاعلان عن مغريات تلك الشركات الهاتفية ، ويحشدون لذلك أهم نجوم الرياضة والفن ، يدغدغون بها أحاسيس البسطاء ، فهم يعرفون أننا شعب يهوى الثرثرة ، ويدمن الرطرطة ، فإذا أحب تكلم واسهب ، وإذا غضب تكلم وارغى ، وإذا تناقش فلا حدود عنده للتحاور والمزايدة ! .
فى مصر خمسون مليون خط تليفونى ، وفى انجلترا ثلاثة ملايين ! .
فى اليابان لايحمله سوى رجال الأعمال ، فى مصر هو فى شنطة اطفال الكى جى ملاصق للسندوتشات والعصائر ! .
كم دفعت تلك الشركة فى سبيل الحصول على هذا المقر وتجهيزه ! .
وكم تبلغ أرباح هؤلاء حتى تتصدر مقارهم أهم الواجهات وأغلاها ! .
كانت تلك الأسئلة وغيرها تراود عقلى بقوة ، حتى أفقت منها على صوت ( سعيد ) أحد جامعى القمامة فى شارعنا ، وهو يسالنى : " والنبى تقولى يا أستاذ ، عايز أجدد الباقة بتاعة النت ، اعمل ايه ؟ " ! . كتمت غيظى ، وأحجمت عن لكمة كنت سأسددها إلى مناخيره ، واكتفيت بأن ابتسمت له ابتسامة صفراء ، ولم أرد ! .