الأرض
الخميس 21 نوفمبر 2024 مـ 10:42 صـ 20 جمادى أول 1446 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

حتى لا نشتري كبسولات الدواجن واللحوم من الصيدليات

واهم من يظن قدرته على الاستيراد بدلا من الإنتاج، لإطعام شعب قوامه يصل إلى 105 ملايين نسمة بحلول عام 2020، وآخذ في الزيادة، مهددا ببلوغ سقف المائة وعشرين مليونا بحلول 2030.

وأكثر وهما من يظن أن رفاهية الشعوب تتحقق بتحطيم معاول الإنتاج، وإحياء آليات التجارة والاستيراد والسمسرة، مع افتراض أن العمولات أسهل حصدا، وأسرع تحصيلا من الزراعة والصناعة، وتنمية الثروة الحيوانية والداجنة والسمكية.

وخائن من يتعمد العرض غير الأمين على صانع القرار بأن "شراء العبد ولا تربيته"، عامدا بذلك ضرب أيادي المنتجين الذين يمثلون القوى الناعمة الجبارة، والسند الحقيقي لأي جدار مجتمعي، خاصة في دولة مثل مصر، بنى شعبها ثقافته منذ آلاف السنين على مفهوم يكره "الإيد البطالة"، ويصفها بعدم الطهارة.

وما يحدث حاليا في كتاب تنمية الثروة الحيوانية الذي هو عماد برنامج أي دولة، سواء كانت نامية أو متقدمة، يوجِّب دق نواقيس الخطر قرب مسامع صانع القرار، الذي يستهدف في المقام الأول تحقيق الأمن الغذائي لمواطني الدولة، كما يضع خطط نموها نصب عينيه، ويسارع الزمن لاستباق الجداول الزمنية، في تحد صريح أمام ذاته، وأمام العالم.

وليست بعيدة على مصر تلك التجارب التي مرت بها بلدان كانت تتعلق بأحبال خط الستر، مثل البرازيل، قبل أن يرفعها ماسح الأحذية الشهير لولا دا سيلفا، حينما اختير فيها كرئيس دولة مطلع يناير 2003، لتصعد في عهده إلى مرتبة سابع أقوى اقتصاد في العالم، من بوابة الزراعة والصناعات القائمة عليها، قبل أن تترنح ثانيا بعده، لأسباب تتعلق بإدارة اقتصاداتها مرة أخرى وفق برامج السمسرة.

وبرغم ما حدث للبرازيل من تراجع على خط الستر، ظلت صناعة الدواجن وحلقاتها المتكاملة، من زراعة الذرة والصويا، أهم ما تفتخر به الدولة حتى الآن، إذ لا تغرب الشمس عنها يوميا إلا بتصدير نحو 30 مليون دجاجة يوميا إلى كل دول العالم، ولتتبوأ درجة تنافسية عالمية في مجال تصدير الذرة الصفراء والصويا، المكونين الرئيسيين لصناعة الأعلاف.

وبقراءة ما يرد من تقارير اقتصادية من الغرفة التجارية العربية البرازيلية، نجد أن واردات مصر وحدها من الدواجن واللحوم البرازيلية، بلغت خلال الشهور الثمانية الأولى من العام الجاري 2019، نحو 3 مليارات جنيه، وتحديدا 99 مليون دولار، منها 56.4 مليون دولار للدواجن (42.6 ألف طن)، و119.34 ألف دولار للحوم (346.1 ألف طن).

هذه المليارات الثلاثة من الجنيهات المصرية، كافية لو تم إنفاقها مرة واحدة كل خمسة أعوم، لتقوية عصب صناعة الثروة الحيوانية مجتمعة في مصر، لدعم المنتجين فنيا ورقابيا، وذلك برفع كفاءة صناعة المصل واللقاح في مؤسساتنا الحكومية، خاصة معهد العباسية، ومعمله المرجعي للرقابة على المصل واللقاح، والمعمل المرجعي للرقابة البيطرية على الإنتاج الداجني، التابع لمعهد بحوث صحة الحيوان.

وإلى جانب الدعم المالي لرفع تكنولوجيا الصناعة، وتكنيك منظومة تتبع حلقات الصناعة من الكتكوت، إلى المصل واللقاح، إلى الأدوية البيطرية، ثم إلى صناعة الأعلاف، يجب تصوير الواقع بعيون فنية خبيرة أمام عيني صانع القرار، وذلك لإتاحة فرصة المقارنة بين الواقع المؤلم، والصورة الوردية التي تعرضها الوزارة المعنية، مستعينة بعرَض مرضي أدى إلى هبوط سعر اللحوم الحمراء إلى 70 جنيها للكيلو، وسعر كيلو الدواجن الحية إلى 17 جنيها، وكلاهما يقل عن سعر تكلفة الإنتاج.

ولحل مشاكل الثروة الحيوانية في مصر، يجب تشكيل فريق خبير متمرس في صناعة الدواجن وتربية الماشية والأسماك في كل حلقاتها، سواء التربية أو مكافحة الأوبئة، وذلك لرسم خريطة الأوبئة بوضوح، وتنفيذ آليات الشق الرقابي الحاسم على كل حلقات الصناعة، للتتبع وتنفيذ اشتراطات الأمان الحيوي (الوقاية قبل العلاج).

وحتى لا تصبح وجبة البروتين الشعبية، خاصة الدواجن، مجرد ملف ترتبه الأهواء العنترية لقيادات وزارة الزراعة، يجب دعم هذه الصناعة بعقول فنية خبيرة في مجالات التربية، ومكافحة الأوبئة، وتضم: باحثين، ومعمليين، ومربين، ومشرفين بيطريين، لمشاركة المسؤول الحكومي المكلف بإدارة الملف السياسي في الوزارة التي "نامت في الخدمة طوعا".

ودون المصارحة والمكاشفة عن واقع صناعة البروتين في مصر، لا أمل في تطويرها، بعدما حدث من آثار مدمرة لقطعان الماشية بسبب وبائي الجلد العقدي، والحمى القلاعية، وعدم نجاح اللقاحات التي وفرتها الوزارة في الوقاية، والاستئثار بالقرار الإداري، ورفض الرأي الفني، إضافة إلى ضعف القدرات المتاحة للمربين في مجال العلاج، للدرجة التي أصبحت فيها أسعار الماشية محل القفشات، حتى قيل إن (الـ 3 بـ 10)، أي أن ثلاثة رؤوس ماشية بعشرة آلاف جنيه.

وقد يتصور البعض أن هبوط سعر كيلو اللحم إلى 70 و80 جنيها، أمرا إيجابيا، ومؤشر رفاهية معيشي للمواطنين، وقد تتسلح وزارة الزراعة بهذه الصورة المزيفة، حين العرض غير الأمين على صانع القرار، لكن هذه الأسعار تجسد في الحقيقة "فلسا" مصدره الخسارة الفادحة التي تلقاها المربون في قطعانهم، فبدلا من بيع البقرة العشار بعشرة آلاف جنيه، يفضلون ذبحها بعيدا عن عيون الرقابة، لجني بضعة آلاف جنيه إضافية.

هذه الموجة الانتحارية التي تسببت فيها الأمراض، وارتفاع أسعار الأعلاف، تتسبب في إبادة الأمهات الولودة، لتختفي عجول التربية خلال عام على الأكثر، كما ستتسبب أمراض الشتاء المقبل في خروج معظم مربي الدواجن من سوق التسمين، ليصبح البروتين الأبيض والأحمر، مجرد كبسولات مستوردة على أرفف الصيدليات، إلى جانب الأدوية البشرية.