* كُوز دُرة ، ياناس !
نزلت « البسوس بنت المُنقذ » ضيّفة على ابن أختها « جَسّاس بن مُرّة » أحد سادة قبيلة « بنى بكر » وبصحبتها ناقتها ، فرحّب بها « جَسّاس » أيّما ترحاب ، وأكرمها ، وأطلق الناقة ترعى فى مراعى القبيلة العامرة ، لكن الناقة انحرفت إلى تخوم « بنى تغلب » ، وراحت ترعى فى أرض كانت ملكاً للفارس العربى المُهاب ، ورأس قبيلته « كُليّب بن ربيعة » ، فلما رآها « كُليّب » وهو لايعرف صاحبها ، استكثر ذلك ، وأخذته العزة بالإثم ، واعتبر ذلك استهانة به ، وبمراعيه ، فأطلق سهماً على الناقة فأصاب ضرعها ، فماتت من فوّرها ، ولما علم « جَسّاس بن مُرّة » ذلك ، وكان « كُليّب » زوجاً لأخته الشاعرة العربية « جليلة بنت مُرّة » أقسم « جَسّاس » ليقتلن من قتل الناقة ، أيّاً من كان هو ، فعرف أنه « كُليّب » ، زوج أخته « جليلة » ، لكنه رغم ذلك لم يتراجع ، تصوّروا ، لم يتراجع ، وكيف يتراجع وهو المِغوّار الأشم الذى لاتسقط له كلمة ، ولايحنث له يمين ، ولايبطل له قسم ، فذهب إلى « كُليّب » وضربه بسيّفه ضربة ، صرعته من فوّره ! .
وقامت قيامة القبيلتيّن ، « بنو بكر وبنو تغلب » ، واشتعلت الحرب بينهما ، كم يامولانا ، أربعون عاماً متواصلة ، لاهدنة فيها ، ولاتصالح ، حتى ترملت النساء ، وتيتمت الأطفال الرُضع ، وهُدمت البيوت ، وأُحرقت الخيام والمضارب ، ونفقت وقُتلت الخيول والنوق والإبل ، وإمعاناً فى الحماقة ؛ أقسم « المُهلهل بن ربيعة » المُلقب ب « الزير سالم » ، أخو « كُليّب » ، أن يقتل مقابل كل عضو من جسد « كُليّب » ، فارساً من « بنى بكر » ! .
وعادت « جليلة » إلى بيّت أخيها « جَسّاس » ، بعد أن قُتل زوجها بيد أخيها ، كسيفة البال ، محزونة ، تلطم خديّها ، وتندب حظها ، وقد سكبت مشاعرها فى قصيدة بديعة ، تستنكر مافعله أخوها جَسّاس ، فتقول فى بعض أبياتها ( فِعلُ جساسَ أضننى به / قاطعٌ ظهرى ومُدنٍ أجلى - إنى قاتلةٌ مقتولةٌ فلعل / الله أن يرتاح لى - هَدم البيّت الذى استحدثته / وسعى فى هدم بيتى الأولِ ) ! .
إنها « حرب البسوس » التى استمرت من عام 494 م وحتى عام 534 م بين القبيلتيّن العربيتيّن ، وأتت على الأخضر واليابس فيهما ، والتى قيل بأنها نشبت بسبب « كوز من الذرة » ، التقمته « ناقة البسوس» من أرض « كُليّب » ! .
ولكنها الحماقة العربية التى يبدو أن روحها قد تسللت إلى نفوسنا حتى اليوّم ، فما زلنا نسعى جاهدين فى خراب أوطاننا وتدمير بلادنا ، ومُخيّمات اللاجئين والمُشردين ، والكوليرا ، وأنهار الدم المُراق فى اليمن وسوريا والعراق وليبيا ، شاهدة على حماقاتنا تلك ، لايهم السبب ، فقد يكون خلافاً فى الرأى ، أو على حدود وهمية ، صنعها أعداؤنا ، أو بئر نفط ، سيجف حتماً يوماً ما ، أو طمعاً فى سلطة زائلة ، أو اختلاف مذهبىّ أو طائفىّ أو عرقىّ ، لكن كلها لاتساوى إذا ماقورنت بالدم العربىّ ( كُوز دُرة ) ، لو كانوا يفقهون !! .