حتى لا نمر بأزمة ”أوراك” ترامب!!
في عام 1990م، وقبيل انهيار الاتحاد السوفيتي، وقع "ميخائيل جورباتشوف" مع الرئيس الأمريكي "جورج بوش" الأب اتفاقا للتبادل التجاري، كان ضمن بنوده استيراد الاتحاد السوفيتي لأجزاء الدواجن الخلفية أو "أوراك الدواجن" كما نطلق عليها في مصر من الولايات المتحدة (الورك وجمعه أوراك كلمة عربية فصيحة وإن اختلف المعنى الفصيح عن المعنى العامي). ونظراً لأن المستهلك الأمريكي لا يفضل أوراك الدواجن، فضلا عن كونها لا تدخل في المصنعات المختلفة، فالولايات المتحدة كانت ومازالت تصدر أوراك الدواجن بقيمة زهيدة للغاية (أقل من 30 سنت أو خمسة جنيهات مصرية للكيلو حاليا)، لأن منتج الدواجن الأمريكي يغطي تكاليفه بالكامل ويحقق أرباحاً من بيع الصدور وإنتاج المصنعات المختلفة منها. كان اعتقاد الإدارة السوفيتية أنها توفر مصدراً رخيصاً للبروتين الحيواني للمواطنين. لم تحسب الإدارة حساب الأثر المدمر على صناعة الدواجن المحلية بروسيا، ولهذا مرت صناعة الدواجن هناك بأزمة هي الأكثر سوءاً في تاريخها، والتي عرفت بأزمة "أوراك بوش" أو "Bush Legs’ Crisis"[1]، حيث انخفضت الحصة السوقية للدواجن المحلية إلى 55% من حجم السوق! استمرت الأوضاع هكذا حتى جاءت إدارة "بوتين" القوية كرئيس للوزراء في 2008م، وفي 2010م قررت هيئة سلامة الغذاء الروسية منع تداول الدواجن المعالجة بالكلور (chlorinated chicken)، والممنوعة بالفعل في معظم دول الاتحاد الأوروبي لخطورتها على صحة الإنسان، فتوقف استيراد الأوراك الأمريكية! وانتهت أزمة "أوراك بوش". وليست التجربة الروسية مع هذه الأوراك بالفريدة. فقد مرت رومانيا والصين بخبرات مشابهة.
نعود إلى مصر. في وقتٍ يتحدث فيه العالم بأسره عن إعادة توطين الصناعات الحيوية، بعدما كشفت أزمة كورونا خطورة الاعتماد على مصدر خارجي كمصدر وحيد للسلع الاستراتيجية، وفي وقتٍ تشجع فيه القيادة السياسية الصناعة الوطنية بخطوات واضحة بدعم البنية التحتية اللازمة لتطور الصناعات، وفي وقتٍ تتعاون فيه وزارة الزراعة المصرية بدرجة غير مسبوقة مع صناعة الدواجن المصرية، فتستجيب لما طلبه الاتحاد العام لمنتجي الدواجن من تدابير خاصة لضمان استمرارية اللإنتاج في ظل قيود حظر التجول والتباعد الاجتماعي، وتصر وزارة الزراعة على حظر استيراد أجزاء الدواجن الخلفية وهو عرفٌ مستقر لأكثر من ثلاثة عقود، وفي وقتٍ يستمر فيه منتجو الدواجن في العمل اليومي لتوفير الغذاء للمواطنين، في هذا الوقت الدقيق، تظهر أصواتٌ تغرد خارج السرب بالحديث عن استيراد أوراك الدواجن، رافعةً شعار "خلي الناس تاكل"! وهو قول حقٍ لم يرد به في تاريخنا المعاصر إلا كل باطل! في محاولة للضغط على وزارة الزراعة لتغيير موقفها الثابت من منع استيراد أوراك الدواجن الأمريكية. وهي حملات تعودنا على ظهورها كل بضعة سنوات، وتقف وراءها دائماً جماعة معروفة من أصحاب المصالح. لهذا يتعين علينا اليوم أن نستعرض التبعات السلبية لاستيراد أوراك الدواجن على المستهلك المصري أولا، وعلى صناعة الدواجن المصرية ثانياً.
الضرر الصحي للدواجن "المكلورة"، ومشكلة الذبح الحلال!
نبدأ بالتبعات السلبية من منظور المستهلك. منذ 1997م، منع الاتحاد الأوروبي استيراد أجزاء الدواجن الأمريكية المعالجة بالكلور، وفي 2010م منعتها روسيا الاتحادية. حيث يتم جمع هذه الأجزاء من عدة مجازر، فتكون بيئة خصبة للبكتيريا الضارة، لهذا تستخدم المجازر الأمريكية كلوريت الصوديوم، وثنائي أوكسيد الكلورين، والفوسفات ثلاثي الصوديوم في معالجتها لتخفيض العد البكتيري بها. وقد اعتبر الاتحاد الأوروبي هذه الممارسة دليلا على هشاشة إجراءات السلامة والنظافة في سلسلة إنتاجها[2]، بينما أثبتت هيئة سلامة الغذاء الروسية في 2010 ضررها على صحة الإنسان. فهل يصل الظلم الاجتماعي لدينا درجة أن نطرح منتجات غير آمنة ليستهلكها الكادحون من أبناء شعبنا، مستغلين جاذبية سعرها الزهيد؟
كذلك لا يمكن لعاقل أن يصدق في حالة أوراك الدواجن أنها أتت من دواجن ذبحت وفق الشريعة الإسلامية، حيث يتم تجميعها في نقاط التغليف من مجازر متعددة، ولا يمكن ضمان طريقة ذبحها إلا لو كانت كل الدواجن الأمريكية تذبح ذبحا حلالا، وهو ما نعرف جميعا أنه غير صحيح. فالمجازر تقوم بصعق الدواجن صعقة كهربية خفيفة لتسترخي العضلات فتسهل عملية الذبح، وهو ما يمنع الإدماء الكامل (لهذا نلاحظ البقع اللونية الداكنة في الدواجن المستوردة)! فهل من حق أحد أن يقدم هذا المنتج للناس لمجرد أن الغلاف الخارجي مكتوبٌ عليه كلمة "حلال"؟
الكارثة الاقتصادية لو وقعت لدينا أزمة "أوراك ترامب"!
صناعة الدواجن المصرية صناعة مليارية الاستثمارات، مليونية العمالة، إذ يعمل بها وبالصناعات الداعمة لها أربعة ملايين عامل، أي أربعة أضعاف العاملين بصناعة الغزل والنسيج! وعندما نقارن صناعة الدواجن لدينا بنظيرتها في الولايات المتحدة، علينا أن ندرك أن تكلفة الإنتاج لدينا تزيد بنسبة 30% عن تكلفة الإنتاج هناك، لأننا نستورد معظم محاصيل الأعلاف، وليس لأن منتجي الدواجن يربحون أكثر مما يجب كما يروج مستوردو الدواجن!! تلك الأمور صارت اليوم معروفة ومتداولة على شبكة الإنترنت. هذا يعني ببساطة أن الأثر المدمر على الصناعة الوطنية في حالة استيراد تلك الأوراك (والتي يعتبرها المنتج الأمريكي ضمن مخلفات الإنتاج) سيكون أكبر من أثرها في حالة روسيا، لأن روسيا دولة تنتج محاصيل الأعلاف وبالتالي فتكلفة الإنتاج عندهم أقل منها لدينا. ولكن لنفترض جدلا أن الأثر سيكون مماثلا لما وقع في روسيا. وقتها، سيحدث تدهور في الأسعار، ويحقق منتجو الدواجن خسائرا مما يؤدي للإحجام عن التربية وتنخفض الطاقة الإنتاجية لأقل من النصف كما وقع في روسيا. فمن يحتمل تسريح نصف العاملين بالصناعة (2 مليون عامل)؟ من يحتمل خروج استثمارات قدرها 35 مليار جنيه من عروق الاقتصاد المصري في وقت يمر فيه العالم بأزمة اقتصادية طاحنة بسبب كورونا؟ من يستفيد من تدمير صناعة تحقق اكتفاء ذاتيا بنسبة 95% من لحوم الدواجن؟ ماذا يحدث لو خسرنا صناعتنا الوطنية ثم جاءت موجة عنيفة من الوباء أدت لتوقف المجازر في الولايات المتحدة مثلا؟
لكل ما سبق، يتعين علينا أن نفهم أن فكرة استيراد أوراك الدواجن الأمريكية ليست فكرة عبقرية، وليست اكتشافا! العالم كله يعرف بتدني أسعارها لكنه يعرف كذلك أنها لعبة خطرة، لهذا تمنع العديد من دول العالم استيرادها. ولهذا يتعين علينا جميعا أن نكون داعمين لوزارة الزراعة في موقفها الصلب من منع استيرادها، وداعمين لموقف الاتحاد العام لمنتجي الدواجن من هذا الأمر ليستمر صلباً كما كان دائماً مهما بلغت الضغوط التي يتعرض لها لتمريره. علينا أن نفهم أن توفير بروتين حيواني للشعب بسعر منخفض هو غايتنا جميعا، لكن علينا ونحن نسعى لتحقيقها أن نحافظ على سلامة الناس أولا، وعلى سلامة الاقتصاد ثانيا. فلا نكون كالتاجر الذي أكل برأسماله ثم عض على أنامله!
* عضو مجلس إدارة الاتحاد العام لمنتجي الدواجن