الأرض
الخميس 21 نوفمبر 2024 مـ 11:06 صـ 20 جمادى أول 1446 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

”سلامة الغذاء” .. كُحل أم عمى؟!

حينما يتشدق مسؤول حكومي فاشل إداريا، بأنه يعمل وفق "تكليفات رئيس الجمهورية"، فهذا يعني أنه يُصَدِّر للجمهور مفهوما يعني أن الرئيس كلفه بالتخريب والهدم، وليس بالتعمير والبناء.

وما يحدث في هيئة سلامة الغذاء بشهادة المتعاملين معها من مصدِّري الحاصلات البستانية والصناعات الغذائية، يؤكد فرضية التكليف بالهدم، سواء عن عمد، أو بالخطأ.

فرئيس الجمهورية لا يُهمِل في كل توجيهاته التركيز على تشجيع الصادرات، بوصفها أحد أهم مصادر الدخل القومي من العملة الصعبة، كما أنها - أي الصادرات - أحد أهم الوسائل التسويقية التي تحافظ على ربحية الزراعة والمزارعين.

ومن يقرأ هذا المقال/ الحلقة الثانية عن هيئة سلامة الغذاء المصرية، يظن أن الأمر مجرد ترصّد للهيئة التي انتظرناها 20 عاما، لتنقل صادرات مصر إلى أرقام تليق بتقدمها في مجال البحث العلمي الموجه لإنتاج الغذاء، فتسببت في إبطاء حركة الصادرات الزراعية والغذائية، ليضطر الحجر الزراعي للضغط على المصدرين بزيادة الأعمال، كي لا تتراجع كمية الصادرات، ومعها حصيلة مصر من العملة الصعبة.

ضغط الحجر على المصدرين يضيف أعباءا ونفقات عليهم، فتتراجع أرباحهم، وبالتالي تتناقص أعدادهم لخروج بعضهم من المنظومة، وهذا ما لا يتفق مع أهداف رئيس الجمهورية، الذي يستخدم رئيس الهيئة اسمه ومنصبه كفزاعة للمتعاملين مع هيئة وُجدَت لأهداف إيجابية لم تتحقق خلال 3 أعوام وأكثر مرت من عمرها، وبعد نحو عامين من صدور لائحتها التنفيذية.

فوفقا لشكاوى انهالت على الواتس آب، تفاعلا مع مقال الأسبوع الماضي في "الوطن"، تسببت الهيئة بتعنتها في تكبيد المؤسسات الصناعية الكبرى خسائر فادحة، نتيجة الإنفاق على مصانعها العملاقة لتنفيذ نحو 138 بندا تؤهلها لدخول القائمة البيضاء المحظية بالتصدير إلى دول الخليج والاتحاد الأوروبي، مع استمرار وقف الحال، ودفع رواتب عمالة، وضرائب، وغيرها، بسبب عدم السماح لها بالتصدير دون اعتماد لجنة رقابية مثيلة من السعودية.
وللتدليل على هذا الحديث نورد الحالات المستندية التالية:

- نحو 37 مؤسسة كبرى للتصنيع الغذائي، من أجل السوق المحلية والتصدير، أنفق كل منها مالا يقل عن 20 مليون جنيه لتأهيل مصانعها للحصول على شهادة الهيئة المصرية، لكن المصانع منذ الربع الأخير من 2018 موقوف حالها، في انتظار لجنة من هيئة الغذاء والدواء السعودية، لاعتمادها من أجل التصدير لسوق المملكة.
هذه المؤسسات في أوراقها وأرقامها المثبتة في إحصاءات المجلس التصديري للصناعات الغذائية، توقفت عن تصدير ما قيمته نحو 1.8 مليار دولار سنويا للسعودية ودول أوروبا، منذ صدور اللائحة التنفيذية لهيئة سلامة الغذاء المصرية، بسبب منهجها القائم على قاعدة "ملكي أكثر من الملك".

- تلقت الهيئة رسالة من هيئة الغذاء والدواء السعودية بإرسال قائمة المصانع المعتمدة طرفها، لمنحها شهادة موافقة بالتصدير لمدة 6 أشهر، لحين تمكنها من مغادرة السعودية - في ظل كورونا، لكن الهيئة المصرية أصرت على وقف الحال لحين مجيء الجهة السعودية بأعضائها للتفتيش، ومنح الموافقة من عدمه، ليظل نحو 37 مصنعا رهن هذه الزيارة.

الهيئة التي أُنشِئت لتشجيع الصادرات المصرية، ورفع كفاءتها من خلال ضبط أداء مؤسسات التصنيع، ربما لا تعرف أنها تسببت في زيادة عدد مصانع بئر السلم التي تُنتِج لصالح عدد قليل جدا من المصانع المحظية باعتماد اللجنة السعودية، فركزت أعمالها على بيع اسمها لكل من هب ودب، كي يصدّر إلى السعودية، وذلك مقابل 30 ألف جنيه لكل شحنة.

- الحالة الثانية لشُحنة ثوم وزنها 23 طنا، تظل منذ الثامن من أكتوبر الماضي، رهن إشارة مدير فرع الهيئة في ميناء العين السخنة، بالإفراج عن الحاوية التي رفضتها الأردن، فأعيدت إلى مصر، وعلى الرغم من فحصها ظاهريا وفرزها واستبعاد المعيب منها (لا يزيد على شيكارة)، يصر مدير فرع الهيئة على إعدامها، على الرغم من صلاحيتها للتجفيف، وإعادة زراعتها كتقاوٍ.
الشركة دفعت في هذه الحاوية رسوم أرضيات في الميناء نحو 9500 دولار، إضافة إلى تكاليف أخرى لإعادة الشحن، وثمن البضاعة البالغ نحو مليون جنيه.

وبالتطرق إلى الأمور المالية والاقتصادية في عمل هيئة سلامة الغذاء، يصر رئيسها البروفيسور النزيه على أن الرسوم التي تتحصل عليها كمقابل لعمل رجالها، رسوما حكومية صدر لها قانون، علما بأن فرضها تم بلائحة داخلية، بناء على ما جاء في اللائحة التنفيذية التي تم نشرها في الجريدة الرسمية بتاريخ 18 فبراير 2019، وتبلغ نحو 16 ضعف الرسوم التي كانت تُحصِّلها الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والورادات، قبل مارس 2019.

حصدت الهيئة رسوما قدرها نحو 109 ملايين و70 ألف جنيه، مقابل فحص شحنات بلغ وزنها نحو 4.5 مليون طن خلال الشهور المنقضية من 2020، تمثل نحو 195 ألف حاوية، هي جملة الحاصلات الزراعية المصرية خلال هذه الفترة من العام الجاري، مقابل نحو 6 ملايين و240 ألف جنيه فقط هي جملة رسوم هيئة الرقابة على الصادرات والورادات للكمية ذاتها قبل مارس 2019، ولم تكن تعوّق العملية التصديرية.

المبالغ لا تمثل فاتورة ثقيلة على عصب الاقتصاد المصري، ومن الممكن ألا تسبب تأففا لدى المصدرين، شرط أن تكون نفقات في موضعها الصحيح، مثل تأمين أجهزة تحليل في أسواق الخضروات والفواكه، وتجنيد فرق فنية لتنفيذ نظام التتبع الذي تحتويه بنود اللائحة التنفيذية للهيئة، لتسهيل الوصول إلى مصدر المخالفة، وتحقيقا لهدف "الحفاظ على صحة المستهلك المحلي".

صادرت هيئة سلامة الغذاء المصرية أكثر من 17 اختصاصا للحجر الزراعي، والجمارك، ووزارة الصحة، والهيئة العامة للخدمات البيطرية، والهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، وجعلت من موظفي هذه الجهات، فرقا خبيرة من "الكاظمين الغيظ"، لأن حضورهم في مناطق اختصاصهم، أصبح تواجدا "منزوع الدسم" ـ من وجهة نظرهم.

ولأن الهيئة وُلِدَت بلا ميزانيات ولا درجات وظيفية، فيمكن أن تكون واردات صندوقها ذات ميزة نسبية فاعلة، شرط أن ترفع آلياتها الفنية البشرية والتقنية، بدلا من استمرار جهل منتسبيها بطرق سحب العينات، وكثير من الأمور الفنية الواجب توافرها في "الفاحص"، على الرغم من أن معظمهم من حملة درجة الدكتوراة.

ومع تشدق رجال الهيئة بأنهم فوق الشبهات، وليسوا من أرباب "شاي الياسمين"، يجب التنويه بأن الأيادي النظيفة وحدها غير كافية للبناء، وأن بناء حوائط الفظاظة والفزع بين الفاحصين والمصدّرين بدعوى "نظافة الأيدي"، تُكسِب المنظومة شكلا بوليسيا، يكون فيها الفاحص فرد بوليس، والمفحوص متهما لن يتمكن من إثبات براءته.