فاضت أنهار الصحافة أوراقاً وأحباراً ـ عن استحقاق وجدارة ـ حول الأستاذ هيكل، وحياته الزاخرة الثرية، فقد كان الأستاذ بحق رجلاً ملأ الدنيا وشغل الناس، خلال عمره الذى امتد من سبتمبر 1923 وحتى قراره بالرحيل فى فبراير 2016، وبعد إصراره على الكف عن تعاطى الدواء، وتناول الطعام، والشراب، وقوله لمرافقيه من الأهل والأحباب " الرحلة انتهت، لا تعاندوا القدر" !
وامتلأ النهر بالكلام عن كتبه التى زادت عن الأربعين، وعن ثلاثين مقدمة كتاب صاغها بقلمه الساحر، والتى كان أشهرها مقدمة كتاب "ماذا يريد العم سام" لنعوم تشومسكي، و"الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية " للفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، وعن مئات المقالات التي حملت عنوان "بصراحة " وكانت الأشهر بين مقالات الصحف العربية والعالمية، منذ بدأها عام 1957 وحتى مغادرته "الأهرام" عام 1975.
لكننى أرى فى شخصية الرجل جانباً لا يقل بريقاً ولمعاناً وجاذبية وعمقاً عما اهتم به المحللون والكُتاب، وهو أن الرجل عاش فناناً بحق، يحمل بين جنباته روح فنان حساس مرهف، فهو متابع جيد لأحدث خطوط الموضة والأزياء العالمية، وهو أنيق يحرص على الظهور فى أعلى درجات الشياكة، وهو مُحبٌ للوحات النادرة التى كانت تزين بيته فى برقاش، والتى أهديت اليه من رساميها الأصليين، أو اشتراها من المعارض التى كان حريصاً على متابعتها.
وهو يملك موهبة التقليد والقاء النُكت، والقفشات والتعليقات الساخرة، ففى احدى المرات، اتصلت به شخصية كبرى هاتفياً، ولأنه كان لا يريد لقاءه، أخذ يُقلد صوت أحد السفرجية عنده، ويخبره بأن الأستاذ غير موجود، وانتهت المكالمة دون أن يفطن المتحدث إلى شخصية الأستاذ.
لكن أجمل ماكان يميز الأستاذ هيكل، عن كل صحافيى العالم، ولعه الشديد بالشعر، فهو عاشق له، ليس فقط يحتفظ فى ذاكرته الحديدية بعشرين ألف بيت منه لكبار الشعراء، يأتى على رأسهم المتنبى وشوقى، والتى غالباً ما كان يستشهد بها فى حواراته العديدة، بل كان يختم أغلب حلقاته فى قناة الجزيرة القطرية ببيت من الشعر القديم أو الحديث، وكان حين يغيب عن ذاكرته شطر من بيت يستشهد به، فانه يقوم باستكمال البيت من تأليفه هو، وبما لايخل بالمعنى ولا بالوزن ولا بالقافية عن النص الأصلى، ليس ذلك وحسب، ولكنه كان يقرض الشعر بعذوبة فى مستهل حياته، وله قصائد تفيض رقة وجمالاً.
سوف نظل نحسد أنفسنا، أننا عاصرنا هذا الرجل الأسطورة، وسوف تحسدنا الأجيال التى ستأتى من بعدنا، فقد عشنا عصراً كان فيه هيكل، الكاتب العبقرى، والصحافى المتفرد، والفنان أيضاً.