عن ”الفرخة” التي نبشت القبة وهزت عرش الحكومة
ليس عيبا أن تتراجع أي حكومة في العالم عن قرار تتخذه، لكن العيب الأعظم في عدم الاستفادة من خطأ صدور القرار في جنح الظلام، دون العرض على البرلمان، أو استشارة ذوي الخبرة، وسؤال أهل الذكر.
التراجع عن قرار رفع الجمارك عن الدجاج المستورد، كان مشفوعا بمبررات "مبلوعة"، منها: تشكيل لجنة تستهدف النهوض بصناعة الدواجن، والوقوف على حقيقة التحديات التي تواجهها، وذلك لتنميتها بشكل يضمن الاكتفاء الذاتي وزيادة للتصدير، كسابق عهدها قبل أزمة أنفلوانزا الطيور في 2006، وهي نتيجة إيجابية أفلحت إن صدقت الحكومة في متابعتها، لتكون فعلا لا قرارا على ورق.
من ضمن المبررات التي غلفت قرار إلغاء القرار الأول، قبول الحكومة عرض اتحاد منتجي الدواجن في مصر، بمنح وزارة التموين 20 ألف طن دجاج لاحم للمجمعات الاستهلاكية، بسعر 20 جنيها لكيلو اللحم، أي بأقل من سعر التكلفة بما يتراوح بين 7 و10 جنيهات للكيلو، يحصل منها المنتج على الحد الأدنى من حساب تعويضات الأمراض الوبائية في وزارة الزراعة، أي من أموالهم التي يضعونها في هذا الصندوق كحماية لهم ضد الكوارث.
هذا العطاء السخي من منتجي الدواجن، يفتح الباب على مصراعيه، لأزمة جديدة، ليست في حسبان وزير المالية، ولا وزير الزراعة "الجانح للسلم"، وهي أن ممولي هذا الصندوق، هم المنتجون على اختلاف درجاتهم، حيث يتم إيداع نسبة من صادرات مستلزمات صناعة الأعلاف، والأمصال واللقاحات، والعنابر، وكل ما يلزم الصناعة، في صندوق هذا الحساب التأميني، الذي تشرف عليه الوزارة فقط، بحكم قانون جائر، أخطأ موظفون حكوميون في تفسير بنوده وصيغته، لتقتص منه وزارة المالية 20 % من إيراداته سنويا، على اعتبار أنه "صندوق خاص"، وهو مجرد حساب تأميني لتعويض المتضررين من المربين حال وقوع أي كارثة وبائية أو طبيعية.
الحكومة لم تعترف بالوقوع في خطأ، ولم تعتذر عن الخطأ في حق 90% من شعب قوامه يقترب من 100 مليون نسمة، ومحاباة لفئة الـ 10 % التي تجتذبها السلع المستوردة مرضا لا تفضيلا، فأقرت التراجع المشفوع بالاستجابة لمنتجي الدواجن، وتشجيع الصناعة الوطنية، بعد إجبار المربين على تقديم التنازلات والخسائر، وتجريف حساب قد ينقذ الصناعة من أي كارثة محتملة، لا تستطيع الحكومة ذاتها على أن "تسد أو تمد" فيها ـ إذا وقعت لا قدر الله.
ومع الأخذ في الاعتبار ضرورة حسن النوايا، لم نجد على الساحة ما يشير إلى بدء أعمال اللجنة التي تمخضت عنها أزمة صدور قرار وإلغائه دون مبررات حقيقية، حيث يجدر بهذه اللجنة أن تدرس واقع هذه الصناعة حاليا، وما يتشابك معها من مقومات متمثلة في أكثر من 25 ألف مزرعة صغيرة، وأكثر من عشر شركات عملاقة، واستثمارات تقدر بنحو 65 مليار جنيه، وعمالة مدربة قوامها 3 ملايين عامل، وخبرة متراكمة علمية وأكاديمية وبحثية وفنية لا مثيل لها في الشرق الأوسط.
كما يلزم هذه اللجنة دراسة ما يتعارض مع هذه الصناعة من تحديات، تتمثل في: معوقات زراعة الذرة الصفراء، وفول الصويا، وتأخر وزارة الزراعة ـ ممثلة في الهيئة العامة للخدمات البيطرية في رسم خريطة وبائية من واقع حصر فعلي لعدد المزارع الصغيرة وحالة الأمان الحيوي فيها، ومعوقات بناء مصنع يتبع اتحاد منتجي الدواجن لإنتاج اللقاحات والأمصال التي تتناسب مع أطوار الفيروسات المتوطنة في البيئة المحلية، ومنح تراخيص المزارع أيا كان تصنيفها، وأيا كانت صورة ملكية الأرض التي تقع عليها المزرعة، على أن تكون الرخصة ليست سندا للملكية، شأنها شأن بطاقة حيازة الأراضي الزراعية.
الأغرب من إلغاء قرار رفع الجمارك عن الدواجن المستوردة، حالة الثبات العميق التي أعقبت الإلغاء، فلا لجنة تقصي حقائق قد شكلها رئيس الجمهورية، ولا البرلمان، على الرغم من أن قرار رفع الجمارك سجل سابقة لم تحدث لمجلس الوزراء، ليسجل بالتالي إجماعا على الرفض والسخط والاستهجان، سواء من المواطن / المستهلك، أو من الصحفيين والإعلاميين، ماعدا صوت واحد تاهت موافقته على القرار بين أصوات جموع الرافضين المنتصرين للصناعة الوطنية، والداعين لتحجيم الطلب على النقد الأجنبي، أو توفيره لاستيراد الأدوية وحليب الأطفال.
وبعيدا عن التكهنات التي وصمت القرار بشبهة الفساد، كونه صدر لصالح نَفَر من المستوردين، خاصة أنه صدر بأثر رجعي 12 يوما، في سابقة لم تحدث في تاريخ مصر، فلا ضير أن تتراجع الحكومة عن ارتكاب مصيبة في حق الشعب، وفي حق الدولة، حتى لو لم تعتذر، وحتى لو اكتفت بالتبرير الذي على شاكلة: "بعد الاطلاع على القرارات، ونزولا عند رغبة المنتجين، وتشجيعا للإنتاج المحلي، وبعد أن تعهد المنتجون ...وهكذا".
تراجع الحكومة عن القرار، بعد إدخال كمية من الدواجن لصالح مستوردين، بصرف النظر عن الكمية التي دخلت فعلا دون رسوم جمركية، لا يعني توافر الفرصة القانونية لإعادة الجمارك بأثر رجعي، لأن السلعة خرجت بقرار رسمي، وبيعت بسعر محدد تم إثباته في فواتير التوزيع، وسوف يحاسب بائعها ضريبيا في نهاية العام الضريبي على أرباحه القانونية.
أمام الحكومة التي اهتز عرشها بقرار غير مدروس، فرصة ذهبية لطمس الواقعة المشينة بفعل إيجابي، يتمثل في متابعة أعمال اللجنة التي تشكلت من وحي الأزمة للنهوض بهذه الصناعة كي تزداد نموا، وتسجل مكاسب للمربين، سواء المنتجين الكبار الذين يتحملون مسؤوليات مجتمعية ثقيلة، أو الصغار الذين كانوا مهدين بالحبس، أو المستهلك الذي وقف حائرا بين قرارين، دون أن يعرف أيهما كان لصالحه.
ولكي تكون هذه اللجنة فاعلة حقا في مسألة النهوض بالصناعة، يجب أن تبتعد في تشكيلها عن المحاباة والمجاملات، والحشو، حتى يكون لكل عضو فيها دور فني، لا إجرائي، فأمامها مسؤوليات جسام، منها: ضورة تحرير حساب تعويضات الأمراض الوبائية من سلطة وزارة الزراعة، وإعادته إلى الاتحاد، مع تغيير لائحة الصرف الخاصة به، مع الاكتفاء بسلطات الجهاز المركزي للمحاسبات، ومجلس الدولة.
حري بهذه اللجنة أيضا، أن تبحث وضع بورصة الدواجن، التي سطت عليها محافظة القليوبية في عهد المستشار عدلي حسين، لتخرجها عن دورها المنوط بها في وضع سقف عادل لسعر كيلو الدجاج، بعيدا عن السماسرة الذين يصنعون الفجوة ما بين سعر المزرعة وسعر البيع للمستهلك.