بات منظراً مألوفاً، أن تجد شخصاً يسير فى الشارع وهو يُحدث نفسه بصوت عال، يشتم وينفعل ويناقش ويُهدد ويتوعد ويلوّح بيديه فى الهواء، وأحياناً يرفس برجليّه، وقد يطرح ظهره للوراء ويضحك فى هستيريا، وغالباً ما يتبع ذلك كله، بصوت متناغم كأنه موسيقى تصويرية للمشهد الكوميدى الأسود، يُخرجه من أنفه وفمه المفتوح كأنه بلاعة مجار تطفح بكل ما يُقزز النفوس، وبحرفيّة عالية.
نحن ثانى أكثر شعوب الأرض كآبة وميلاً للحزن، هذا ماتقول به الاحصاءات الدولية، رغم ما يبدو على السطح من ولعنا بالنكات والسخرية اللاذعة والضحك، ولكنه ضحك كالبُكا، كما قال عمنا المتنبى قديماً، لكن أن يتحول هذا الحزن إلى خبل، و"مانخوليا" و"بارانويا"، فهذا تطور سلبى فى الشخصية المصرية ينذر بالخطر الداهم، لأن هذه هى المنطقة التى تسبق الجنون، فأنت لا تستطيع أن تُحاسب مثل هذا الشخص، وأيضاً لا تستطيع أن تغفر له سلوكه المشين، فهو يمكن أن يتفوّه بأى لفظ جارح أو خادش للحياء العام أو حتى جنسى وسط كوكبة من النساء والفتيات دون أدنى مراعاة لمشاعر أحد أو اهتمام باستهجان من يسمع، ولسانه متدرب على الشتائم القبيحة، واشارات يديه وأصابعه معتادة على التلميحات الوقحة، وبكل مايخالف المشاعر السوية!
هل هو توالي الأزمات والنكسات والصدمات علينا، هل هو سوء تربية وانعدام القدوة، هل هو الإحباط واليأس والإحساس باللامبالاة واللاجدوى من أى تمسك بالقيم والأخلاق والمبادىء فى زمن نرى فيه أن من تخلوا عنها قد صاروا هم الفائزين بالنصيب الأوفر من كعكة الوطن؟
هل هو ضياع الحلم وتراجع الأمل، أم أنه موت الإنسان داخل الإنسان، بعدما دفعته الدنيا والواقع المرير بعيداً إلى الدوامة، حيث لا نجاة ولا شواطىء تلوح في الأفق؟!